في طريق عودتي من بيت سعدون رأيت نخلة في حديقة أحد البيوت بدا واضحاً أن أصحابه قد أهملوها فلم يكرّبوها أو يشذبوا سعفها. تذكّرت بريسم، صاعود النخل الذي ظل يكرّب ويلقّح النخلتين في بيتي لأكثر من ثلاثين سنة. كان سيصرخ غاضباً لو رآها. بريسم كان يدور في الشوارع، وعندما يرى نخلة أهملها أصحابها كان يظل يرن الجرس حتى يخرج أحد من أهل البيت، ليوبّخهم على قسوتهم وغلاظة قلوبهم. أصبح بريسم شبه أصمّ في سنيّه الأخيرة. وكان يصرخ “ما عندي غير الله والنخل. . . ما عندي غير الله والنخل.” أو “هاي برحية هاي” ولعل الله كان يحبه حقاً لأنّه أخذه ذات ظهيرة وهو يعانق نخلة في بستان كان قد تسلّقها ليلقّحها، فسكت قلبه وهو في التبليّة. مات وهو يعتني بالنخلة التي كان يخاطبها وكأنها بشر. وكان قد أصبح أسطورة بين صواعيد النخل. هذا ما سمعته من جاسم، الصاعود الذي بدأ يعتني بالنخلتين بعد وفاة بريسم. لكن جاسم لم يكن يحب الكلام. فكلما سألته “شأخبار النَخَلْ هالأيام؟” كان جوابه دائماً مقتضباً وعاماً “الحمد لله أستاذ. كُل شي بخير” المرة الوحيدة التي انفتحت فيها قريحته على الكلام كانت عندما رن الجرس قبل ثلاث سنوات وقال إنه قرر ألا يكمل عمله ذلك الموسم وبأنه سيعود إلى قريته. استعلمت عن السبب. فقال:
“عمّي آنا رايح لهلي. أكو بيوت أدگ بيبانها يطلعولي ناس ما چانو بيها گَبُل. قسم يَگلون گرايب گاعد يديرون بالهم عالبيت، بس مو دايماً صدگ. أسألهم وين شالَوْ أهل البيت, ما يجاوبون. بس آنا ما أسأل وماأتدخّل. تدري ثْنَعَش واحد من جماعتنا تكتلوا؟ أحسنلي أرجع لهلي أشتغل ببساتين بالجنوب، هناك أمان.”
لم تعد العوائل تسلمه مفاتيح الابواب الخارجية ليدخل ويعمل في الحدائق أثناء نومها، أو في وقت تكون فيه العوائل خارج الدار. ولم يعد يمكنه الدخول عندما تكون النساء أو البنات لوحدهن في البيت. يطلبون منه الانصراف إلى أن يتواجد أحد من الرجال.
“قبل الأمريكان چان وضعي أحسن بصراحة. چنت أروح وأجي بكيفي. أيام زمان چنت أنام جوّ الشجرة بأي زاوية، محد يندگ بيّ. هسّة لازم أنام بفندق وإلا أنْچِتِل. وهاي الحيطان الكونكريت خانْگتنا. أستاذ حتى النخل صار بي سنّي وشيعي. لازم أوگّف البايسكل بنقطة التفتيش ما يخلوني أدّخْله، والنوب انْباگ. التَمُر ذبلان ويابس بالعثگ. تدري شگد نخل مگصوص ومشلوع علمود الأمريكان يشوفون لو القناصة يشوفون؟ حرام أستاذ.”
أحزنني ما سمعته منه يومها، لكنّي لم أفاجأ، لأنني كنت أعرف وأردد دائماً بأن أحوال النخل لا تختلف عن أحوال البشر، وعليها ما عليهم، ولها ما لهم. الحروب تقطع رؤوس البشر والنخل. أيكون أصحاب ذلك البيت الذي مر من جانبه قد هجروه أم أن من يشغله الآن لا يحب النخل؟ ولكن هل هناك عراقي لا يحب النخل؟ كيف؟ كنت أؤمن بأن من لا يحب النخل لا يحب الحياة أو الإنسان. كم يشبه الإنسان النخلة، ففيها الذكر وفيها الأنثى، يلقح الثانية طلع الأول ويخصبها فتحبل كامرأة وتتدلى أعذاقها. الفسيلة هي الأخرى كالطفل الصغير لا بد أن تحمى من البرد والمطر كي تشب قوية.
لمحت سعف نخلتي البيت من بعيد وهما تقفان في حديقته الخلفية فبدتا كأنهما تحرسانه. أنا أيضاً أحرس البيت وذكرياته. البيت الذي هو أكثر من بيت. فمثلما ليست النخلة محض نخلة، بل حياة بأكملها، متشابكة مع الأرض التي تحتها وكل ما فيها، ومع السماء التي حولها والهواء الذي تتنفسه بكل ما فيه. فالبيت أيضاً ليس محض طابوق واسمنت وصبغ، بل عمراً بأكمله.
بعد أن توفيت حنّة قالت لي أختي أمل من بين دموعها بعد أن عزّتني على الهاتف من كندا “أحسنلك تبيع البيت وتطلع عيني. شِكْل الأمور راح تنلاص بالأزيد. شعندك بيقي بوحدك؟ تعال عِدْنَا. أو روح يم سليمة بالسويد. بس إطلع يا عيوني.” فرفضت كالعادة. “ما راح أطلع. وين أروح واتبهدل بهالعمر؟”
كان أصحاب مكاتب العقارات وغيرهم قد طرقوا باب البيت أكثر من مرة مؤخراً ليسألوا إن كنت أفكّر بالبيع، لكنّي كنت أرفض. أسعار المنطقة كانت في ارتفاع لأنها آمن وأهدأ من غيرها. كما انتشرت فيها بعض المطاعم الأنيقة، وأخذ البعض من الأغنياء الجدد يشترون البيوت القديمة ليهدموها ويبنوا قصوراً ضخمة محلها.
سألني لؤي ذات أمسية ونحن نشاهد التلفزيون:
“عجب ما فكّرت تطلع عمو؟”
“وين أروح بهالعمر وأتبَهْدَل؟ أتبَهْدل هوني ببلدي أحسن. لو شاب يمكن كان طَلَعْتو. إنتم المستقبل قدامكم تروحون وتبدون من جديد. نحنُ ها هُنا قاعِدون. بعدين هذا البيت أنا بنيتونو وعِشْتو بينو نص قرن وأكثر. شلون أخلّينو وأروح؟”
“أبد ما صار عندك فرصة أو رغبة تطلع قبل؟”
“ إجاني مرّة عرض من أبو ظبي بنهاية السبعينات، ومرة لِخ بالـ ٨٩ من دبي بس رفضته.”
“ما متندم؟”
“لا. ما سمعت شيقول الگبانچي؟”
“شيقول؟”
“لا تِفْتِكِرْ راحة السفر/بيه شاهَدِتْ كُلّ القَهَر/بيه شاهَدِتْ كلّ التَعَبْ/والنوم من عيني انْسَلَبْ/ما دريت أنا، ولاحّدْ حِسَبْ.”
[فصل من رواية بعنوان “يا مريم” صدرت مؤخراً عن دار الجمل بيروت-بغداد.]